دواعي تجديد الخطاب الديني
أما دواعي تجديد الخطاب الديني فقد خصص لها المحور الثالث من الكتاب، موضحا الدواعي الفقهية، ومنها السيولة المتدفقة في الفتوى، وفقه التنزيل؛ ذلك أن واقع اليوم كما يقول النشاط يطرح الكثير من القضايا والإشكاليات، التي لم تكن معروفة في القرون الماضية من تاريخ الأمة الإسلامية، من قبيل الحريات العامة، وحقوق الإنسان، ومفهوم المواطنة، ومبدأ المشاركة والمساءلة، والتعددية، وحق الاختلاف، ومفهوم الحاكمية الراشدة، والتوازنات الدولية والإقليمية... إلخ.
وهذه القضايا والإشكالات المطروحة تحتاج -وفق رؤية الباحث المغربي- إلى رأي الشريعة الإسلامية، من خلال خطاب ديني يفقه اللحظة التي أنتجت هذه المفاهيم والآليات.. وهذا الأمر كافٍ وحده لكي يشفع في ضرورة إجراء تجديد لهذا الخطاب الديني؛ من خلال تقوية ملكة الفقه عند منتجي الخطاب ومبلغيه؛ لاسيما فقه تنزيل أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها.
وبخصوص الدواعي الثقافية لتجديد الخطاب الديني فقد أجملها الكتاب في تأثير فكر تلك الحقبة الزمنية التي ابتلي فيها الخطاب الديني بكثير من النتوءات الفكرية والتصورية التي ظهرت على خريطة الفكر الديني الإسلامي، والتي ما زال تأثيرها ساريا إلى اليوم.. فغدا الخطاب الديني كآلية لتصفية حسابات معينة مع أطراف معينة، غابت فيه الموضوعية والبحث عن جوهر الحقيقة، وسيطرت عليه لغة الانتصار للذات، وتغليب كفة الانتقام.
أهداف تجديد الخطاب الديني
وحدد صالح الناشط أهداف تجديد الخطاب الديني في غايات عدة منها:
-بيان رسالة الدين، والمقصود تصحيح صورة الإسلام وإزالة كل الشوائب التي شوشت على هذه الصورة، ثم القيام بإعادة بيان الصورة الحقيقية للعرب والمسلمين؛ أوعية الرسالة الإسلامية وحملتها.
-تفعيل آلية التخطيط والتفكير الإستراتيجي من خلال خطاب ديني، يراعي ويفقه شرط اللحظة التاريخية، ويبحث عن كيفية استثمارها وتوظيفها التوظيف الحسن.
لكن ترجمة هذا الهدف الإستراتيجي -حسب المؤلف- تكون عن طريق تقدير العنصر البشري وتأهيله والاهتمام به، وحيازة القدرة على اغتنام كل الفرص المتاحة والتي تكون في صالح الدين عموما، مع إمكانية تحويل كل التهديدات المحيطة والمؤثرة إلى فرص متاحة لاستثمارها، أو على الأقل الحد من تأثيرها.
آليات تجديد الخطاب الديني
وفي المحور الخامس من الكتاب يتناول المؤلف نوعين من الآليات: الآليات الذاتية، والآليات الموضوعية لتجديد الخطاب الديني.
فبالنسبة للآليات الذاتية فهي ترتبط بمسألة حل عقدة اللسان وانشراح الصدر؛ لأن اللسان هو العنصر الفعال في إنجاح مهمة الخطاب الديني، ومن ثم فأي عملية تجديدية للخطاب الديني تبرز من خلال حل عقدة اللسان وانشراح الصدر ليحصل البيان في الكلمة، ويتحقق التواصل والتخاطب، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُل عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي}، وقال أيضا:{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِل إلى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُون}.
واعتبر الباحث المغربي أن تجديد الخطاب الديني يحتاج إلى سلطة تسانده وتدعمه، ولا يمكن تصور أي عملية تجديدية لخطابنا الديني في معزل عن منطق السلطة، مادية كانت أم معنوية، حيث يقول: "يمكن القول بأن كل خطاب يملك سلطة ما، أو يمارسها، أو تسانده، وإن من بين دعائم السلطة في الوجود والاستمرار هو إنتاج خطاب المرحلة التي تعيشها تلك السلطة".
وتنحو طبيعة سلطة الخطاب الديني منحى السلطة التذكيرية لبيان طبيعة آلية سلطة الخطاب، والسلطة التقريرية في بعض الحالات الخاصة، حينما تتعلق بموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيتم تنازع الأمر بينها وبين تلك التي يمارسها السياسي.
أما بالنسبة للآليات الموضوعية، فيمكن اعتبار الفكر كآلية موضوعية، وكمحدد قوي لتجديد الخطاب الديني؛ لكون المنطلق التأسيسي لبناء خطاب ديني راشد هو ترشيد استعمال الفكر، كآلية تنتج خارج الذات الإنسانية، وتصاغ في رحم المجتمع، وتعبر عن انشغالاته، فبقدر انفتاح المجتمع ينفتح الفكر الذي يؤثر بدوره على الخطاب الديني، وبانغلاق المجتمع وحلقيته ينغلق الفكر، وبالتالي يصاب الخطاب الديني في مقتل.
الضوابط..
وفي المحور السادس والأخير من الكتاب، جاء تحديد ضوابط تجديد الخطاب الديني والمتمثلة في الضوابط الفقهية، والمقصود بها توفر ذوي الاختصاص والدراية والعلم بفقه مقاصد الشريعة الإسلامية وفقه الاختلاف، ومبدأ الحرية الدينية.
وركز الباحث المغربي على مسألة الردة في ارتباطها بالحرية الدينية المسموح بها لكل فرد، متسائلا: هل للفرد الحق في أن يرتد عن دينه؟ وهل يكون معرضا لعقوبة الردة التي توقعها الجماعة المسلمة التي يشاطرها فيها ولاء المواطنة وحب الوطن؟
وخلص المؤلف إلى كون مطلب التجديد في هذا الموضوع يبقى قائما أمام الخطاب الديني، فهناك كثير من الآيات القرآنية تقرر مبدأ الحرية الدينية، وعدم إكراه الناس على الدين، وهناك أيضا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم شاهدة على هذا المبدأ، لكن هناك في الاتجاه الآخر، وتحت مبررات معينة، تم التأسيس، انطلاقا من حديث: «من بدل دينه فاقتلوه» لضوابط تطعن في المبدأ العام الذي قرره الله تعالى لعباده.